فصل: ذكر ما كان بالأندلس في هذه السنة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر موت الحكم بن هشام:

وفي هذه السنة مات الحكم بن هشام بن عبد الرحمن، صاحب الأندلس، لأربع بقين من ذي الحجة، وكانت بيعته في صفر سنة ثمانين ومائة، وكان عمره اثنتين وخمسين سنة، وكنيته أبوالعاص، وهولأم ولد، وكان طويلاً أسمر، نحيفأن وكان له تسعة عشر ذكرأن وله شعر جيد، وهوأول من جند بالأندلس الأجناد المرتزقين، وجمع الأسلحة والعدد، واستكثر من الحشم والحواشي، وارتبط الخيول على بابه، وشابه الجبابرة في أحواله، واتخذ المماليك، وجعلهم في المرتزقة، فبلغت عدتهم خمسة آلاف مملوك، وكانوا يسمون الخرس لعجمة ألسنتهم، وكانوا يوماً على باب قصره.
وكان يطلع على الأمور بنفسه، ما قرب منها وبعد، وكان له نفر من ثقات أصحابه بطالعونه بأحوال الناس، فيرد عنهم المظالم، وينصف المظلوم، وكان شجاعأن مقدامأن مهيباً وهوالذي وطأ لعقبه الملك بالأندلس، وكان يقرب الفقهاء وأهل العلم.

.ذكر ولاية ابنه عبد الرحمن:

لما مات الحكم بن هشام قام بالملك بعده ابنه عبد الرحمن ويكنى أبا المطرف، واسم أمه حلاوة، وكان بكن والده، ولد بطليطلة، أيام كان أبوه الحكم يتولاها لأبيه هشام، ولد لسبعة أشهر وجد ذلك بخط أبيه.
وكان جسيمأن وسيمأن حسن الوجه، فلما ولي خرج عليه عم أبيه عبد الله البلنسي، وطمع بموت الحكم، وخرج من بلنسية يريد قرطبة، فتجهز له عبد الرحمن، فلما بلغ ذلك عبد الله خاف، وضعفت نفسه، فرجع إلى بلنسية، ثم مات في أثناء ذلك سريعاً ووقى الله ذلك الطرف شره.
فلما مات نقل عبد الرحمن أولاده وأهله إليه بقرطبة، وخلصت الإمارة بالأندلس لولد هشام بن عبد الرحمن.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها عزل الحسن بن موسى الأشيب عن قضاء الموصل، فانحدر إلى بغداد، وتولى القضاء بها علي بن أبي طالب الموصلي.
وفيها ولى المأمون داود بن ماسحور محاربة الزط، وأعمال البصرة، وكور دجلة، واليمامة، والبحرين.
وفيها كان المد عظيماً غرق فيه السواد، وكسكر، وقطيعة أم جعفر، وهلك فيه من الغلات كثير.
وفيها نكب بابك الخرمي عيسى بن محمد بن أبي خالد؛ وحج بالناس هذه السنة عبيد الله بن الحسن العلوي، وهوأمير الحرمين.
وفيها غزا المسلمون من إفريقية جزيرة سردانية، فغمنوأن وأصابوا من الكفار، وأصيب منهم، ثم عادوا.
وفيها توفي الهيثم بن عدي الطائي الإخباري، وكان عابدأن ضعيفاً في الحديث؛ وعبد الله بن عمروبن عثمان بن أمية الموصلي، وهومن أصحاب سفيان الثوري.
وفيها توفي محمد بن المستنير، والمعروف بقطرب، النحوي، أخذ النحومن سيبويه. وفيها توفي أبوعمروإسحاق بن مرار الشيباني اللغوي.
مرار بكسر الميم وبراءين مخففتين.

.حوادث سنة سبع ومائتين:

.ذكر خروج عبد الرحمن بن أحمد باليمن:

في هذه السنة خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر ابن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهم، ببلاد عك، في اليمن، يدعوإلى الرضي من آل محمد، صلى الله عليه وسلم.
وكان سبب خروجه أن العمال باليمن أساؤوا السيرة فيهم، فبايعوا عبد الرحمن هذا؛ فلما بلغ المأمون ذلك وجه إليه دينار بن عبد الله في عسكر كثيف، وكتب معه بأمانه، فحضر دينار الموسم، وحج.
ثم سار إلى اليمن، فبعث إلى عبد الرحمن بأمانه، فقبله، ودخل في طاعة المأمون، ووضع يده في يد دينار، فخرج به إلى المأمون عند ذلك الطالبيين من الدخول عليه، وأمرهم بلبس السواد، وذلك لليلتين بقيتا من ذي العقدة.

.ذكر وفاة طاهر بن الحسين:

وفي هذه السنة، في جمادى الأولى، مات طاهر بن الحسين من حمى أصابته، وإنه وجد في فراشه ميتاً.
وقال كلثوم بن ثابت بن أبي سعيد: كنت على بريد خراسان، فلما كان سنة سبع ومائتين حضرت الجمعة، فصعد طاهر المنبر، فخطب، فلما بلغ إلى ذكر الخليفة أمسك عن الدعاء له، وقال: اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفنا مؤونة من بغى علينأن وحشد فيهأن بلم الشعث، وحقن الدماء، وإصلاح ذات البين.
قال: فقلت في نفسي: أنا أول مقتول لأني لا أكتم الخبر. قال: فانصرفت، فاغتسلت غسل الموتى، وتكفنت، وكتبت إلى المأمون، فلما كان العصر دعاني، وحدث به حادث في جفن عينه، وسقط ميتأن فخرج إلي ابنه طلحة، قال: هل كتبت بما كان؟ قلت: نعم! قال: فاكتب بوفاته! فكتبت بوفاته، وبقيام طلحة بأمر الجيش، فوردت الخريطة على المأمون بخلعه، فدعا احمد بن أبي خالد، فقال: سر فأت بطاهر كما زعمت وضمنت، فقال: أبيت الليلة؟ فقال: لأن فلم يزل حتى أذن له في المبيت.
ووافت الخريطة الأخرى ليلاً بموته، فدعاه، فقال: قد مات طاهر، فمن ترى؟ قال: ابنه طلحة؛ قال: اكتب بتوليته! فكتب بذلك، فأقام طلحة والياً على خراسان في أيام المأمون سبع سنين، ثم توفي، وولى عبد الله خراسان.
ولما ورد موت طاهر على المأمون قال: لليدين وللفم؛ الحمد لله الذي قدمه وأخرنا! وكان طاهر أعور وفيه يقول بعضهم:
يا ذا اليمينين وعين واحدة ** نقصان عين ويمين زائدة

يعني أن لقبه كان ذا اليمينين، وكانت كنيته أبا الطيب، وقد قيل إن طاهراً لما مات انتهب الجند بعض خزائنه، فقام بأمرهم سلام الأبرش الخصي، وأعطاهم رزق ستة أشهر.
وقيل استعمل المأمون على عمله جميعه ابنه عبد اله بن طاهر، فسير إلى خراسان أخاه طلحة، وكان عبد الله بالرقة على حرب نصر بن شبث، فلما توجه طلحة إلى خراسان سير المأمون إليه أحمد بن أبي خالد ليقوم بأمره، فعبر أحمد إلى ما وراء النهر، وافتتح أشروسنة، واسر كاوس بن صارخره، وابنه الفضل، وبعث بهما إلى المأمون، وهب طلحة لأحمد ابن أبي خالد ثلاثة آلاف ألف درهم، وعروضاً بألفي ألف درهم، ووهب لإبراهيم بن العباس كاتب أحمد خمسمائة ألف درهم.

.ذكر ما كان بالأندلس في هذه السنة:

وفي هذه السنة وقع عبد الرحمن بن الحكم، صاحب الأندلس، بجند البصراة وأهلهأن وهي الوقعة المعروفة بوقعة بالس.
وكان سببها أن الحكم كان قد بلغه عن عامل اسمه ربيع أنه ظلم الأبناء أهل الذمة، فقبض عليه، وصلبه قبل وفاته، فلما توفي وولي ابنه عبد الرحمن سمع الناس بصلب ربيع، فأقبلوا إلى قرطبة من النواحي يطلبون الأموال التي كان ظلمهم بهأن ظنا بهأن ظناً منهم أنها ترد إليهم، وكان أهل إلبيرة أكثرهم طلباً وإلحاحاً فيه، وتألبوأن فبعث إليهم عبد الرحمن من يفرقهم ويسكتهم، فلم يقبلوأن ودفعوا ن أتاهم، فخرج إليهم جمع من الجند، وأصحاب عبد الرحمن، فقاتلوهم، فانهزم جند إلبيرة ومن معهم، وقتلوا قتلاً ذريعأن ونجا الباقون منهزمين، ثم طلبوا بعد ذلك، فقتلوا كثيراً منهم.
وفيها ثارت بمدينة تدمير فتنة من المضرية واليمانية، فاقتتلوا بلورقة، وكان بينهم وقعة تعرف بيوم المضارة، قتل منهم ثلاثة آلاف رجل، ودامت الحرب بينهم سبع سنين، فوكل بكفهم، ومنعهم، يحيى بن عبد الله بن خالد، وسيره في جميع الجيش، فكانوا إذا أحسوا بقرب يحيى تفرقوا وتركوا القتال، وإذا عاد عنهم رجعوا إلى الفتنة والقتال حتى عيي أمرهم.
وفيها كان بالأندلس مجاعة شديدة ذهب فيها خلق كثير، وبلغ المد في بعض البلاد ثلاثين ديناراً.
تدمير بالتاء فوقها نقطتان والدال المهملة والياء تحتها نقطتان ثم راء.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها غلا السعر بالعراق، حتى بلغ القفيز من الحنطة بالهاروني أربعين درهماً إلى الخمسين.
وفيها ولي محمد بن حفص طبرستان، والرويان، ودنباوند؛ وحج بالناس أبوعيسى بن الرشيد.
وفيها أمر المأمون السيد بن أنس، والي الموصل، بقصد بني شيبان وغيرهم من العرب لإفسادهم في البلاد، فسار إليهم، وكبسهم بالدسكرة، فقتلهم ونهب أموالهم وعاد.
وفيها توفي وهب بن جرير الفقيه، وعمر بن حبيب العدوي القاضي، وعبد الصمد بن عبد الوارث بن سعيد، وعبد العزيز بن أبان القرشي، قاضي واسط، وجعفر بن عون بن جعفر بن عمروبن حريث المخزومي الفقيه، وبشر بن عمر الزاهد الفقيه، وكثير بن هشام، وأزهر بن سعيد السمان، وأبوالنضر هشام بن القاسم الكناني.
وفيها توفي محمد بن عمر بن واقد الواقدي، وكان عمره ثمانياً وسبعين سنة، وكان عالماً بالمغازي واختلاف العلماء، وكان يضعف في الحديث.
وفيها توفي محمد بن أبي رجاء القاضي، وهومن أصحاب أبي يوسف صاحب أبي حنيفة.
وفيها توفي محمد بن أبي عبد الله بن عبد الأعلى المعروف بابن كناسة، وهوابن أخت إبراهيم بن أدهم، وكان عالماً بالعربية والشعر وأيام الناس.
وفيها توفي يحيى بن زياد،أبوزكرياء الفراء النحوي الكوفي، وأبوغامن الموصلي، وزيد بن علي بن أبي خداش الموصلي، وهومن أصحاب المعافي، كثير الرواية عنه.

.حوادث سنة ثمان ومائتين:

في هذه السنة سار الحسن بن الحسين بن مصعب من خراسان إلى كرمان، فعصى بهأن فسار إليه أحمد بن أبي خالد، فأخذه، وأتى به المأمون فعفا عنه.
وفيها استقضي إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة، وفيها عزل محمد بن عبد الرحمن المخزومي عن قضاء عسكر المهدي، ووليه بشر بن الوليد الكندي، فقال بعضهم:
يا أيها الرجل الموحد ربه ** قاضيك بشر بن الوليد حمار

ينفي شهادة من يدين بما به ** نطق الكتاب وجاءت الآثار

ويعد عدلاً من يقول بأنه ** شيخ يحيط بجسمه الأقطار

وفيها مات موسى بن الأمين، والفضل بن الربيع في ذي العقدة، وحج بالناس صالح بن الرشيد.
وفيها هلك أليسع بن أبي القاسم، صاحب سجلماسة، فولى أهلها على أنفسهم أخاه المنتصر بن أبي القاسم واسول، المعروف بمدرار، وقد تقدم ذكرهم.
وفيها سير عبد الرحمن بن الحكم صاحب الأندلس جيشاً إلى بلاد المشركين، واستعمل عليه عبد الكريم بن عبد الواحد بن مغيث، فساروا إلى ألبة والقلاع، فنهبوا بلاد ألبة وأحرقوهأن وحصروا عدة من الحصون، ففتحوا بعضهأن وصالحه بعضها على مال وإطلاق الأسرى من المسلمين، فغمن أموالاً جليلة القدر، واستنفذوا من أسارى المسلمين وسبيهم كثيرأن فكان ذلك في جمادى الآخرة، وعادوا سالمين.
وفيها توفي عبد الله بن عبد الرحمن الأموي المعروف بالبلنسي صاحب بلنسية من الأندلس، وقد تقدم من أخباره مع أخبار أبن أخيه الحكم ابن هشام كثير.
وفيها توفي عبد الله بن أبي بكر بن حبيب السهمي الباهلي، ويونس ابن محمد المؤد، والقاسم ابن الرشيد، وسعيد بن تمام بالبصرة، وعبد الله بن جعفر بن سليمان بن علي، والحسن بن موسى الأشيب، وقد كان سار ليتولى قضاء طبرستان، فمات بالري.
وتوفي علي بن المبارك الأحمر النحوي، صاحب الكسائي، وقيل توفي في سنة ست وثمانين ومائة.

.حوادث سنة تسع ومائتين:

.ذكر الصفر بنصر بن شبث:

وفي هذه السنة حصر عبد الله بن طاهر نصر بن شبث بكيسوم، وضيق عليه، حتى طلب الأمان، فقال محمد بن جعفر العامري: قال المأمون لثمامة بن أشرس: ألا تدلني على رجل من أهل الجزيرة له عقل وبيان يؤدي عني ما أوجبه إلى نصر؟ قال: بلى يا أمير المؤمنين، محمد بن جعفر العامري؛ فأمر بإحضاري، فحضرت فكلمني بكلام أمرني أن أبلغه نصرأن وهوبكفر عزون، بسروج، فأبلغته نصرأن فأذعن، وشرط شروطاً منها أن لا يطأ بساطه، فلم يجبه المأمون إلى ذلك، وقال: ما باله ينفر مني؟ قلت: لجرمه، وما تقدم من ذنبه.
قال: أفتراه أعظم جرماً من الفضل بن الربيع، ومن عيسى بن محمد ابن أبي خالد؟ أما الفضل فأخذ قوادي، وأموالي، وسلاحي، وجميع ما أوصى به الرشيد لي، فذهب به إلى محمد أخي، وتركني بمروفريداً وحيدأن وسلمني، وأفسد عليّ أخي حتى كان من أمره ما كان، فكان أشد عليّ من كل شيء. وأما عيسى بن أبي خالد فإنه طرد خليفتي من مدينتي ومدينة آبائي، وذهب بخراجي وفيئي، وأخرب داري، وأقعد إبراهيم خليفة دوني.
قال قلت: يا أمير المؤمنين! أتأذن لي في الكلام؟ قال: تكلم. قال قلت: أما الفضل بن الربيع فإنه صنيعكم ومولاكم، وحال سلفه حالهم، فترجع إليه بضروب كلها تردك إليه.
وأما عيسى فرجل من دولتك وسابقته من مضى من سلفه معروفة يرجع عليه بذلك.
وأما نصر فرجل لم يكن له يد قط فيحتمل كهؤلاء لمن مضى من سلفه وإمنا كانوا من جند بني أمية.
قال: إنه كما تقول، ولست أقلع عنه حتى يطأ بساطي.
قال: فأبلغت نصراً ذلك، فصاح بالخيل، فجالت إليه، فقال: ويلي عليه، هولم يقوعلى أربعمائة ضفدع تحت جناحه، يعني الزط، يقوي علي بحلبة العرب؟ فجاده عبد الله بن طاهر القتال، وضيق عليه، فطلب الأمان، فأجابه إليه، وتحول من معسكره إلى الرقة وصار إلى عبد الله، وكانت مدة حصاره ومحاربته خمس سنين، فلما خرج إليه أخرب عبد الله حصن كيسوم، وسير نصراً إلى المأمون وفصل إليه في صفر سنة عشر ومائتين.

.ذكر عدة حوادث:

وفيها ولى المأمون علي بن صدقة المعروف بزريق، على أرمينية، وأذربيجان، وأمره بمحاربة بابك، وأقام بأمره أحمد بن الجنيد الإسكافي، فأسره بابك، فولى إبراهيم بن الليث بن الفضل أذربيجان.
وحج بالناس صالح بن العباس بن محمد بن علي.
وفيها مات ميخائيل بن جورجيس ملك الروم، وكان ملكه تسع سنين، وملك ابنه توفيل.
وفيها خرج منصور بن نصير بإفريقية عن طاعة الأمير زيادة الله. وكان منه ما ذكرناه سنة اثنتين ومائتين.
وفيها توفي أبوعبيدة معمر بن المثنى اللغوي، وقيل سنة عشر، وكان يميل إلى مقالة الخوارج، وكان عمره ثلاثاً وتسعين سنة، وقيل مات سنة ثلاث عشرة وعمره ثمان وتسعون سنة.
وفيها توفي يعلي بن عبيد الطيالسي أبويوسف، والفضل بن عبد الحميد الموصلي المحدث.

.حوادث سنة عشر ومائتين:

.ذكر ظفر المأمون بابن عائشة:

وفيها ظفر المأمون بإبراهيم بن محمد بن عبد الوهاب بن إبراهيم، الإمام المعروف بابن عائشة، ومحمد بن إبراهيم الإفريقي، ومالك بن شاهي ومن كان معهم ممن كان يسعى في البيعة لإبراهيم بن المهدي.
وكان الذي أطلعه عليهم وعلى صنيعهم عمران القطربلي، وكانوا اتعدوا أن يقطعوا الجسر إذا خرج الجند يتلقون نصر بن شبث فمن عليهم عمران، فاخذوا في صفر، ودخل نصر بن شبث بغداد ولم يلقه أحد من الجند، فأخذ ابن عائشة، فأقيم على باب المأمون ثلاثة أيام في الشمس، ثم ضربه بالسياط، وحبسه وضرب مالك بن شاهي وأصحابه، فكتبوا للمأمون بأسماء من دخل معهم في هذا الأمر من سائر الناس فلم يعرض لهم المأمون، وقال: لا آمن أن يكون هؤلاء قذفوا قوماً برآء.
ثم إنه قتل ابن عائشة وابن شاهي ورجلين من أصحابهما، وكان سبب قتلهم أن المأمون بلغن أنهم يريدون أن ينقبوا السجن، وكانوا قبل ذلك بيوم قد سدوا باب السجن، فلم يدعوا أحداً يدخل عليهم، فلما بلغ المأمون خبرهم ركب إليهم بنفسه، فأخذهم، فقتلهم صبرأن وصلب ابن عائشة، وهوأول عباسي صلب في الإسلام؛ ثم أنزل وكفن وصلى عليه ودفن في مقابر قريش.

.ذكر الظفر بإبراهيم بن المهدي:

وفي هذه السنة، في ربيع الأول، أخذ إبراهيم بن المهدي، وهومتنقب مع امرأتين، وهوفي زي امرأة، أخذه حارس أسود ليلأن فقال: من أين أنتن، وأين تردن هذا الوقت؟ فأعطاه إبراهيم خاتم ياقوت كان في يده له قدر عظيم ليخليهن، ولا يسألهن، فلما نظر الحارس إلى الخاتم استرابهن، وقال: خاتم رجل له شأن، ورفعهن إلى صاحب المسلحة، فأمرهن أن يسفرن، فامتنع إبراهيم، فجذبه، فبدت لحيته، فدفعه إلى صاحب الجسر، فعرفه، فذهب به إلى باب المأمون وأعلمه به، فأمر بالاحتفاظ به إلى بكرة.
فلما كان الغد أقعد إبراهيم في دار المأمون والمقنعة التي تقنع بها في عنقه، والملحفة على صدره ليراه بنوهاشم والناس، ويعلموا كيف أخذ، ثم حوله إلى أحمد بن أبي خالد، فحبسه عنده؛ ثم أخرجه معه، لما سار إلى فم الصلح، إلى الحسن بن سهل، فشفع فيه الحسن، وقيل ابنته بوران.
وقيل إن إبراهيم لما أخذ حمل إلى دار أبي إسحاق المعتصم، وكان المعتصم عند المأمون، فحمل رديفاً لفرح التركي، فلما دخل على المأمون قال: هيه يا إبراهيم! فقال: يا أمير المؤمنين! ولي الثأر محكم في القصاص والعفوأقرب للتقوى، ومن تناوله الاغترار بما مد له من أسباب الشقاء، أمكن عادية الدهر من نفسه، وقد جعلك الله فوق كل ذي ذنب، كما جعل كل ذي ذنب دونك، فإن تعاقب فبحقك، وإن تعف فبفضلك.
قال: بل أعفو، يا إبراهيم، فكبر وسجد؛ وقيل بل كتب إبراهيم هذا الكلام إلى المأمون وهومتخف، فوقع المأمون في رقعته: القدرة تذهب الحفيظة، والندم توبة، وبينهما عفوالله، عز وجل، وهوأكبر ما يسأله، فقال إبراهيم يمدح المأمون:
يا خير من رقلت يمانية به ** بعد النبي آيس أوطامع

وأبر من عبد الإله على التقى ** غيباً وأقوله بحق صادع

عسل الفوارع ما أطعت فإن تهج ** فالصاب يمزج بالسمام الناقع

متيقظاً حذراً وما تخشى العدى ** نبهان من وسنان ليل الهاجع

ملئت قلوب الناس منك مخافة ** وتبيت تكلؤهم بقلب خاشع

بأبي وأمي فدية وأبيهما ** من كل معضلة وذنب واقع

ما ألين الكنف الذي بواتني ** وطناً وأمرع ربعه للراتع

للصالحات أخاً جعلت وللتقي ** وأباً رؤوفاً للفقير القانع

نفسي فداؤك إذ تضل معاذري ** وألوذ منك بفضل حلم واسع

أملاً لفضلك، والفواضل شيمة ** رفعت بناءك للمحل اليافع

فبذلت أفضل ما يضيق ببذله ** وسع النفوس من الفعال البارع

وعفوت عمن لم يكن عن مثله ** عفوولم يشفع إليك بشافع

إلا العلوعن العقوبة بعدما ** ظفرت يداك بمستكين خاضع

فرجمت أطفالاً كأفراخ القطا ** وعويل عانسة كقوس النازع

وعطفت آمرة علي كما وهى ** بعد انهياض الوثي عظم الظالع

الله يعلم ما أقول كأنها ** جهد الألية من حنيف راكع

ما إن عصيتك والغواة تقودني ** أسبابها إلا بنية طائع

حتى إذا علقت حبائل شقوتي ** بردى إلى حفر المهالك هائع

لم أدر أن المثل جرمي غافراً ** فوقفت أنظر أي حتف صارعي

رد الحياة علي بعد ذهابها ** ورع الإمام القادر المتواضع

أحياك من ولاك أفضل مدة ** ورمى عدوك في الوتين بقاطع

كم من يد لك لم تحدثني بها ** نفسي إذا آلت إلي مطامعي

أسديتها عفواً إلى هنيئة ** وشكرت مصطنعاً لأكرم صانع

إلا يسيراً عندما أوليتني ** وهوالكبير لدي غير الضائع

إن أنت جدت بها علي تكن لها ** أهلاً وإن تمنع فأكرم مانع

إن الذي قسم الخلافة حازها ** من صلب آدم للإمام السابع

جمع القلوب عليك جامع أمرها ** وحوى رداؤك كل خير جامع

فذكر أن المأمون قال، حين أنشده هذه القصيدة: أقول كما قال يوسف لإخوته: {لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهوأرحم الراحمين} يوسف: 92.